نقل محمّد حقّي صوتشين (الصورة) قرابة 40 عملاً بين العربية والتركية
“عنِ الزّمانِ المُتناهي تخلَّينا” هكذا تكلّمَ يونُس أمرة، الشّاعرُ والمتَصوِّفُ التّركيّ الشّهير الذي عاشَ في القرن الثّالث عشَر الميلادي. وقد وقعَ اختيارُ التُّرجُمان القدير محمّد حقّي صوتشين، على أبيات “أمرة” الخالدة، ليُلقيَها بترجمتِه الرَّفيعةِ على مَسامِعِ الجُمهور العربي. ذلك في النّدوة التي دَشَّنتْ بها “جائزةُ الشّيخ حمد للتَّرجمة والتَّفاهُم الدّولي” سلسلةَ ندواتِها لهذا العام، بعنوان “واقع وآفاق التّرجمة بين اللُّغتين العربية والتُّركية”، السّبت الماضي. وقد بُثّتْ عبرَ صفحةِ الجائزة على فيسبوك، وأدارَها أستاذُ اللّغة التّركية في الجَامعة الأردنية علي مقدادي.
اجتمعَ في النّدوة، أربعةُ مُترجمينَ أتراكٍ كشفُوا عن مدى التنوُّعِ الجِيليِّ والثَّـقافيِّ للاهتمام التُّركي باللّغة العربية، كما أبانُوا مساحاتِ اشتغالٍ رصينة، تُؤكّدُ أهميّةَ اللُّغة التُّركيَّة التي اعتَمدَتها لجنةُ الجائزة لغةً رئيسةً ثانيةً لدَورتها الحالية (دورة عام 2022). فماذا يخبرُ التاريخُ عن التّرجمة بين أمّتين جمعَ بينَهما ارتباطٌ ديني وسياسي وحَضَاري لأكثر من ألف ومئتي عام؟ وكيفَ تَتجاورُ أشعارُ العرب من معلّقات الجاهليّة إلى حداثة جبران ورواد القصيدة الحرّة، مع أدباءَ أتراك مثل: ناظم حكمت وعزيز نيسين وأورهان ولي؟ ثمّ ماذا عن العَقباتِ التي تواجهُ المترجمَ المعاصِرَ؟ وهو يرتحلُ صوبَ المُفرداتِ الخالدة اللّامُتناهية، مُقتفياً أثَرَ “أمرة” الصّوفيّ في تخلّيه عن الزّمان المتناهي.
افتتحَ النّدوةَ أستاذُ اللّغة العَربية وآدابِها في “جامعة يلدرم بايزيد/أنقرة” يعقوب جيفليك، بمداخلةٍ عنونَها بـ”تجربة تركيا في التّرجمة إلى العربية والعكس”، وقفَ فيها على أهميّة القرآن بوصفه الإطارَ الدّيني المُشترك. وما خلقَه عبر التّاريخ من مرجعيّة تنامَت حولَها دينامياتٌ معرفيّة وسياسيّة بين العرب والأتراك. وكأنّنا أمام مشهدٍ بانوراميٍّ ينطلق من عراقة تاريخيّة ليَصُبَّ في الزّمن الرّاهن. صحيحٌ أنّ حديثَ جيفليك اكتسى بُعْداً تِقنياً أو مدرسيّاً، ولكنّه في الوقت عينِه حملَ تلكَ السِّمةَ اللَّامتناهية، التي نَشَدها “أمرة” في شعره، وكأنّ العُلماء والمؤرخين يستلفون من الشُّعراء تطلُّعاتهِم على ما يفصل بين الاثنين من لغة. وتوضّحَ هذا في حديثِ جيفليك، وهو يتتبّعُ الهموم الوظيفيّة للترجمة في الحقبةِ قبل-العُثمانيّة، عندها اقتصرتِ التّرجماتُ فيها على الرّسائل والكُتيّبات مثل: “بيطرة الواضح”، و”علم النّشاب”، باستخدام الـ”كيبتشاك” إحدى اللُّغاتِ التّركية السَّائدة بين القرنين الثَّالث عشَر والرَّابع عشَر.
حيويّة تُذكّر بعمقِ حضورِ العربية وتداخلهِا مع التركية
لكنّ تلك النّزعة الوظيفيّة خضعتْ لقانون التّرقّي، وشهدَت نقطةَ تحوّلٍ كبرى في زمن السُّلطان العُثماني مُراد الثّاني (1421- 1451م) حيثُ شُرِعَ بترجمة مواضيعَ ذاتِ بُعْدٍ سياسيٍّ مثل: “كنز الكُبرا” و”مرآة الملوك”. ثمّ شهدتِ القرونُ التّاليةُ انفتاحاً أوسعَ على موضوعات فلسفيّة ومعجميّة وأدبية، فتُرجِمَت كتبٌ مثل: قاموس الجوهري “الصّحاح”، وقاموس الفيروزآبادي “تاج العروس”، و”ألف ليلة وليلة” إلى التّركيّة. وبالوصول إلى الزمن الجمهوري، تولَّت وزارةُ التّربية ترجمةَ الآداب الكلاسيكيّة ومنها العربية، وأطلقت عدداً من البرامج، يبقى أهمّها برنامج TEDA عام 2005، وقد تكثّفتْ فيه حيويّةٌ لا مُتناهيّةٌ وخبرةٌ طويلةٌ، تُوِّجَتْ بترجمةِ 2750 كتاباً، من بينها أكثر من 400 كتاب بالعربيّة.
بعدها قدّمَ المُترجم القدير محمّد حقّي صوتشين مُداخلتَه التي عنونَها بـ”ترجمةُ الأدبِ العربيِّ من خلالِ تجربَتي”، مُستعرِضاً خلفيّتَه الأكاديميّة بوصفه رئيس قسم اللّغة العربية في “جامعة غازي أنقرة” وأستاذاً زائراً في “جامعة مانشستر”. إنّ المتأمّلَ في تكوين صوتشين الأكاديمي يلمسُ مدى اهتمام الأكاديميا التّركيّة بموضوعة الحداثة في الأدب العربي المُعاصر. بمعنى آخر إنّ صوتشين لا يُعبّر عن فردٍ قادَهُ الشّغف وحسب، إنّما يمثّلُ جيلاً أوسع من المترجمين والأكاديميين الأتراك، الذين وجدوا في العربية وآدابها مُشتركاتٍ صلبة وتياراتٍ تتقاطع بين ضفتين. ولو أردنا تقريبَ الأهميّة التي يشغلُها صوتشين في التركية، فلن نجدَ أفضل من المُترجم القدير الرّاحل عبد القادر عبد اللّي، الذي ترجمَ قرابة 80 عملاً من التّركيّة إلى العربية.
كأنّ العُلماء والمؤرخين يستلِفون من الشّعراء تطلُّعاتهِم
تحدّثَ صوتشين بإسهاب عن تجربتِه التي تُوصَفُ بالجدليّة، لما تحتويهِ من تنوُّع ضخمٍ، تتراصفُ فيه الترجمة الأولى “للمُعلّقات الجاهليّة”، شعراً وليسَ نثراً أو تفسيراً، الصّادرة عامَ 2020، كما لاقَتْ احتفاءً كبيراً على الصّعيد النّقدي. إلى جانب ترجمة “حيّ بن يقظان” و”طوق الحَمامة” بلغة تركيّة مُعاصِرة تختلف عن الترجمات القديمة الصّعبة. من جهة ثانية، يتعشّقُ باشتغالات صوتشين الكلاسيكيّة، اهتمامٌ كبيرٌ بشعراء الحداثة كأدونيس بحصيلة 5 كتب، ومحمود درويش 4 كتُب، وصولاً إلى نزار قبّاني ونوري الجرّاح وآخرين. أمّا بالانتقال من عالم الشّعر إلى الرّواية فستطالعُنا ترجماتٌ لأعمال يحيى حقّي “قنديل أم هاشم”، وغسّان كنفاني “رجال تحت الشّمس” و”عائد إلى حيفا”، ولكنّ الحدث الأبرز بين ترجمات صوتشين للرواية، هو ترجمتُه لـ”تفصيل ثانوي” رواية الكاتبة الفلسطينية عدنيّة شبلي، التي طُبعَت ثلاث مرّات، خلال خمسة أشهر. ألا تعودُ هذه الأرقام لتذكّرَنا مُجدّداً، أنّ جذوةَ اللَّامتناهي بين العربية والتّركية لن تخبو!
إلى جانب صوتشين، تحدَّثَ الأستاذ المُشارك في “جامعة أنقرة حجّي بيرم” مراد أوزجان بمداخلة عنونَها بـ”مجالات التّرجمة في اللُّغة التّركيّة: الأدب والعلوم الإنسانيّة”. وفيها جهدٌ إحصائيٌّ واضح، حول برنامج TEDA بشقّهِ العربي المُتَمثّل بترجمة أكثر من 400 كتاب، توزّعت بين الرواية والمسرح والتّاريخ، وصولاً إلى أدب الأطفال العربي الذي لاقى عناية فائقة من الجانب التّركي. في حين أشار إلى بعض العقبات التي تعترضُ طريق المترجِم منها التّقني: كحقوق الطّبع والمُلكيّة الفكرية، وأزمة التّسويق وأذواق القُرّاء، ومنها الأيديولوجي: كاختزال المشهد بطغيان الكُتب الدينيّة على التّرجمة من العربية إلى التّركية.
طُبعَت رواية عدنيّة شبلي التي ترجمها صوتشين 3 مرّات في 5 أشهر
تأتي أهميّة مداخلة أوزجان من حيثُ تمهيده إلى المُداخلة الرّابعة الأخيرة للشابة سارة بايرم، طالبة الدكتوراة في قسم اللّغة العربية بـ”جامعة عمّان” بعنوان “معوّقات الترجمة من التّركيّة إلى العربيّة”. وفيها حلّلَتْ بايرم المنطق اللغوي المُحرِّك لكُلٍّ من التُّركيّة بوصفها لغةً إلصاقيّة، تنتمي إلى عائلة اللغات الأورالية وسط آسيوية. والعربية بوصفها لغةً اشتقاقيّة تنتمي إلى عائلة اللغات الأفروآسيوية. هذه الفروقات المُتشعّبة تفرضُ على المُترجم استحضارَ انتباه دائم لفروقات الحقيقة والمجاز، والتمييز بين المُذكّر والمؤنّث، والمُتعدّي واللّازم. علاوة على ذلك ما تتمتّعُ به العربية من وفرة المخزون اللّغوي، الذي قد يوحي أحياناً للمترجم بحُريّة أكبر في اختيار المُفردات، ولكنّه يضعهُ أمامَ اختبارٍ لحظيٍّ يمتحنُ فيه أدواتِه وملكتَهُ في التّرجمة الأمينة والدّقيقة.
تقاطعت مُداخلاتُ النّدوة الأربع، إذِ اشتبكَ كلُّ مُحاضرٍ من موقعِه الخاص بخطاطةٍ واسعة من الاشتغالات. كما خلقَ التنوّعُ الجيلي بين المُحاضرين حيويّةً تُذكّر بعمقِ حضورِ العربية وتداخلهِا مع التّركيّة، وأنّ حياةَ العربية تتمثّلُ بالتّواشُجِ الحضاري مع مُجاوِرَاتِها من اللّغات الشّرقية. وأنّ غيابَ مثل هذا التّواشج سيتحوّلُ مع الوقت إلى ثغرةٍ ينسربُ منها المستشرقون وشُرَّاحهم وحلفاؤهم. لذا فإنّ أهميّةً كبرى تتشكل من كون اللغة التّركيّة لغةً رئيسةً ثانية هذا العام إلى جانب الإنجليزية، في “جائزة الشيخ حمد للترجمة والتّفاهُم الدُّولي”. أهميّة أكّدتها أستاذة اللغة العربية في “جامعة قطر” والمستشارة الإعلاميّة للجائزة، حنان الفيّاض، التي اختتمَتِ النّدوة، بحديث عن القيمة المالية الإجمالية للجائزة (2 مليون دولار)، وعن تعدُّدِ فروعها التي تعكسُ حرصَ القائمين، منذ إطلاقِها عام 2015، على التّنوُّع اللّغوي ومركزية اللّغة العربية في عمليّة التّبادل المعرفي.