صدر عن الدار المصرية اللبنانية رواية “حجابُ السَّاحر ” للشَّاعر والكاتب أحمد الشهاوي والتي تحكي جُزءًا مُهمًّا من سيرة حياة شمس حمدي ، تلك المرأة التي تُراودُها الأشباحُ عن نفسها كل ليلة ، المثيرة الفاتنة الآسرة الجميلة ، التي تحملُ عقلًا وجسدًا يُنيران الظلمات في الحياة ، ويأسران من يقترب منها ، حيثُ تتمتَّعُ بقدرٍ كبيرٍ من الصدق والذكاء، وهي تدركُ سرَّ قوتها ، وتعرفُ ماهيتها ، هي امرأةٌ خمسينيةٌ درست العلوم السياسية ، وعاشت حياتها الجامعية مُهتمةً بالسياسة مُناهضةً للسلطة ، ثم أغرِمتْ بتاريخ مصر القديمة ؛ حتى آمنت أنها إلهةٌ مصريةٌ هي سخمت : (تعيشُ في داخلها إلهةٌ أتتْ لتخلِّص الناس من الشُّرور والآثام )، وظلت تعيش وسط الناس ، وبين بناتها الثلاث ، وأهلها هكذا ؛ ربما لأنَّ فيها من سخمت القوة والحُب والجنس والجمال ، وهي تمثّل كسيدة برأس لبؤة جالسة على العرش أو واقفة ، وتمسك بيدها مِفتاحَ الحياة ، يعلو رأسها قرصُ الشَّمس وثعبان الكوبرا .
ومن ثم تتناول رواية ” حجاب السَّاحر ” عبر سيرة شمس حمدي شريحةً مهمةً من مُجتمع البرجوازية ، من دون أن تغفل سيرة الحُب والجنس ، والعلاقات الإنسانية بين أفراد العائلة الواحدة ، حيث عانت شمس حمدي من سوء وتدنِّي أخلاق بعض الأقرباء من الدرجة الأولى : (شمس حمدي ليستْ شخصيةً مأساويةً ، لكنَّها بكلِّ تأكيدٍ ملأى بالغريبِ والعجيبِ من العناصرِ التي تتداخلُ مع بعضها ، فقد وُلدت لعائلةٍ تقليديةٍ محافظةٍ بنَتْ نفسها ، وتعلَّمتْ بشكلٍ عاديٍّ ، مارستِ السياسةَ وانخرطتْ في العمل السرِّي ، الذي لم تواصله بسبب اعتراض الأب الدائم وخوفه عليها من السّجن ، ومن البطشِ .)
وعلى الرغم من كون شمس حمدي امرأة قوية فقد ضربتها الأمراض هي وبناتها ؛ من جرَّاء فعل السِّحر الذي عُملَ لها ، حتى تعثَّرت حركتها وحياتها ، ووهنت وارتبكت وقلَّت حيلتها ؛ فتُسِرُّ لحبيبها الذي ارتبطت بها لسنواتٍ ، ثم ابتعدت من دون أن تذكر أسبابًا للنأي ؛ فاحترم رغبتها في الابتعاد ، أن هناك أعمالًا سحريةً تُعرقِلُ حياتها ، ولم تكُن تعرفُ أنَّ حبيبَها عُمر الحديدي هو في الأصل له صِلةٌ عميقةٌ بالسِّحر ، فاهتم بالأمر وقابل شيوخَه ، ومن يعرفهم من السَّحرة ، ليجدوا حلًّا لها ، ويعرفوا أمكنة الأعمال ومن قام بها ، كما أنه اصطحبها لتمكُث ليلةً داخل الهرم الأكبر ، حيث لاقت الأهوال ، ورأت ما لم يره بشرٌ من قبل ، ثم إلى البحيرة المُقدَّسة في الأقصر ، وهي أعجوبةٌ من عجائب الحضارة المصرية القديمة عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام ، مياهها لا تجفُّ نهائيًّا ، كما أنَّ منسوبَ المياه فيها ثابتٌ لا يتغيرُ من دون زيادةٍ أو نقصان ، ولم يظهر بها أيُّ طحالب أو روائح ، وكانت بعض النساء يأتين إلى البُحيرة المقدَّسة للتبرُّك بها، إذْ يعتقدن أنَّ مياهَها تُعالجُ الأمراضَ المُستعصيةَ و العُقم ، كما اصطحبها إلى شيوخ السِّحر في دلتا مصر ، ثم الرحلة الأهم إلى جزيرة سُقَطْرة اليمنية ، حيثُ يوجدُ شيخُ الجن الأكبر ، الذي يُقرِّر لها ماذا تفعل ، ولكن قبل أن يصلا إلى اليمن كان أكثر من شيخٍ قد فكَّ اللغزَ الغامضَ ومنح شمس اسم من قام بالأعمال ؛ لتكتشف أنه واحدٌ من أسرتها ، صارت مَهمَّته في الحياة النَّيْل منها ، ولم يكتف حبيبها بالكشف عن اسمه مع شيوخِه بل عمل له سِحْرًا ضرب جسده كاملا ، حتى لم يترك المرض جُزءا منه إلا نخره .
و” حجاب الساحر ” ليست رواية تُرْوَى ليتسلَّى بها القارئ ، لكنها تحمل حياة شمس حمدي الخصبة ، والثريَّة في تنوُّعها ، ” فهي امرأةٌ تظهرُ كلَّ ليلةٍ
و كلَّ نهارٍ في شأنٍ ، إنَّها نساءٌ عديداتٌ ، وليستْ امرأةً واحدةً تُكَرِّرُ نفسها ، إذْ هي تامة تعجبُ كلَّ أحدٍ ، تأخذ بصرَكَ جُملةً ، وقد تعلَّمتُ منها أنَّ الإنسانَ إذا ما أراد إزالةَ جبلٍ ضخمٍ ، سيُزيلُه بفضل ثقتِه فيمن يُحب ” .
ومثلما تناقشُ رواية ” حجاب السَّاحر ” التي تقع في 360 صفحة طبيعة العلاقات الأسرية في المجتمع الحديث ؛ فإنها تتناول أيضًا عالم السِّحر والسَّحرة ، كما لو أنَّ كاتب الرواية واحدٌ من شيوخ السِّحر المُتمرسين العارفين بأرواح البشر .
ويقول الشَّاعر والكاتب مصطفى عبادة : سوف تظلُّ شخصية “شمس حمدي”، بطلة رواية “حجاب الساحر” لأحمد الشهاوي طويلًا في ذاكرة الرواية العربية، فهي نموذجٌ لمواجهة التناقضات السيئة للطبيعة البشرية، ذات روح غنائية تستحضرُ الأحلام، وخيبات الأمل، وما يعنيه أن تكون نقيًّا خلاقًا.
شمس حمدي تخوضُ مع الراوي حربًا عميقةً ضد الجهل والخُرافة وإشاعة رُوح الخراب، حربًا ضد عدم اليقين، ومحاولة العيش في ظل محاولات الآخرين السيطرة عليها، والأضرار الجانبية التي تسرَّبت إلى رُوحها، والسِّحر الحقيقي في لحظات الانتصار.
“حجاب الساحر”.. الرواية الأولى لأحمد الشهاوي، ماهرةٌ وبانوراميةٌ، ومكتوبةٌ بدقة من طبقاتٍ عديدةٍ، ومن العديد من الحقائق الاجتماعية المسكُوت عنها، وتكشفُ من ناحيةٍ أخرى آليات تخريب حياة الآخرين، وتفضحُ العديد من الأرواح والظروف التي تجعل من بعض البشر قتلة من دُون سببٍ، وغارقين في الأذى من دون سببٍ أيضًا .
ما يلفت النظر في “حجاب الساحر” مع ذلك، هو هشاشة الشَّر برغم ما يبدو عليه من رسوخٍ وصلابةٍ في وجه أية مقاومة متى كانت صادقة.
يبدو كما لو أنَّ أحمد الشَّهاوي أراد بهذه الرواية أن يتجاوز نفسه بإدخالها في أُتُونُ معركةٍ جديدةٍ، هذه المرة، على صعيد الرواية، وأن يجرِّبها في حقلٍ صعبٍ آخر، وباختيارِ أشد طرق السَّرد صعوبة، بعدم الارتكان إلى نقطةٍ مركزيةٍ للانطلاق في الحكاية بل ظل سرده يُراوحُ بين تقنياتٍ مُتعددةٍ بالعودة إلى الماضي، والذهاب إلى المستقبل، بفن الرسالة ورُوح أدب الرحلة الرُّوحية والمكانية، والذهاب بعيدًا في استكناه المشاعر، والبحث وراءها، من أين أتت، وما بواعثُ هيجانها في موقفٍ معيَّن، أو وقتٍ ما، غير مُتخلٍّ عن المعرفيِّ المؤسِّس للروحي، أو الخالق له.
“حجاب الساحر” رواية الشفقة والأرق والتضامن الإنساني، والحفر لاكتشاف الذات، الإحساس بالمهانة، في الصراع مع الآخر، حياة كاملة من السعي إلى المعرفة والحُب والارتواء الجسدي غير المكتمل، الذي يغذِّى الصراع الدائم بين الاحتياج والزُّهد، وما يخلقه ذلك من آلام.
ويقول الشاعر والروائي المغربي الدكتور حسن نجمي إنَّ : أحمد الشَّهاوي، شاعرٌ عربيٌّ من مصر، شَيَّدَ لِنَفْسِهِ وضعًا اعتباريًّا لافتًا للانتباه.
لقد اشْتَغَل على قصيدتِه بعمقٍ، وبوعيٍّ شِعْريٍّ وجماليٍّ متواصلٍ.
سافَرَ طويلًا في جهاتِ العالم، وفي جهاتِ الكِتابة والبحث كي يكتبَ أَفْضَلَ وأَجْملَ، وكي يمتلكَ صَوْتَه الخاص. ونَجَح في أن يعثرَ في العشق على مَادَّتهِ الشّعْرية الأولى، وجعَلَ من رُوحه الصُّوفية مرجِعًا في كتابته، وفي حياته.. وأفقه.
وهَا أحمد الشهاوي يقتحمُ مجهُولًا جديدًا في مُغامرة الكتابة، يُجَرِّبُ تَرْسَانَةَ العِشق التي أَثْرَاهَا طويلًا بِمدَّخراتٍ وافرةٍ، ويخرُجُ إِلينا بنَصٍّ روائيٍّ – هذه المرة – فيه الكثيرُ من رُوح البحث، والكثيرُ من خزائنِ السَّفَر، والكثيرُ من المحكيات والتفاصيل والشَّذرات الشِّعرية، والكثيرُ من الجرأة والكثيرُ من الشَّفافية، والكثيرُ من الحَفْر، والكثيرُ من الاستعادة، والكثيرُ من التَّوَاضعُ أَمام بَذَخِ العَالَم وسِحْر اللغة الذي يتَدَاخلُ مع سِحْرِ الآخرين.. وسِحْرِ الواقع الذي يُنْتجُ الأَلَم والفقدان.
“حَجابُ السَّاحر” هو هُنَا حِجَابُ الشَّاعر الذي يَرْأَفُ بهشاشةِ الكائن، ويكشفُ بَدَلَ أَنْ يحجبَ، ويمضي إِلى أَقْصَى درجات المُغامرة بحثًا عن خلاصٍ شِبْهِ مُستحيلٍ لجَسَدِ المَحْبُوب، في رحلة عشقٍ مُسْرِفٍ غامضٍ عَبْرَ الزَّمن، وعَبْرَ المكان.
في هذا النَّصِّ السَّرْدي البِلَّوري، يضَعْ الشَّاعِرُ السَّاردُ أوراقَهُ فوقَ الطَّاولة كاشفًا أَسرارَهُ الظليلة ، عن شذراتٍ من حياتِهِ، من ذاكرته، من قراءاته، من مسموعاته، من رحلاته، من صدَاقاتِهِ. يكادُ القارئ الخَبيرُ يرسُمُ للكاتب “بروفايل” من خلال مَجْرى الأحداث وتعالُقِ الشخصيات وعُرْيِ الأمكنة الشخصية، البعيدة والقريبة. كأنَّ ضَوْءَ نهارٍ يَتَدلَّى، في هذا العمل الروائي الذي أحببتُه على جدار الليل.