ياقوتة حلب،عماد الدين النسيمي سُلخ جلده حياً وأُطلق يحمل جلده على كتفه

بقلم الدكتور مختار فاتح بي ديلي
طبيب- باحث في الشأن التركي أوراسيا

السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي الذي يحكم سلطنة المماليك من القاهرة، وبأمرٍ منه سلخ جلده وهو حي لعماد الدين نسيمي في مدينة حلب ربما كانت لنسيمي أشعارٌ اعتبرها بعض الفقهاء هرطقةً دينيّة، لكنّ المدقّق في الأحداث سيعرف أنّ الأمر كان سياسياً بالأساس، استغلّه السلطان للقضاء على الشاعر عماد الدين نسيمي. ما قصّة هذا الشاعر الأذربيجاني أحد أعلامها التاريخيين؟

إن للكلمة قوة وقيمة، تعطينا إلى جانب المضمون معلومات مباشرة ومهمة حول صاحبها، وتدفعنا الى مناقشته وحب التحدث معه لمدة تستمر قرونا

إنه نسيمي، شاعر الجمال الذي أسرتنا روعة كلماته، والذي حاول أن يعكس العلاقة المباشرة التي لا تنضب بين الخالق وعبده من خلال فلسفته الخاصة، والذي أعلى من قدر البشر أمام جميع التيارات والسلطات السياسية السائدة في عصره، متحليًا بشغف رافقه عملٌ دؤوب من أجل البحث عن كمال العرق البشري.بالنظر إلى جميع المشاكل الإنسانية التي وضعها والعواطف التي عبر عنها وقيم محاربة الظلم التي أعلاها، أظهر نسيمي مرة أخرى قوة الكلمة، ووضعنا أمام سؤال مثير لم يجرِ التطرق إليه من قبل فمن هو هذا الشاعر الصوفي

Seyid Əli İmadəddin Nəsimi انه سيد علي بن سيد محمد، المعروف ب عماد الدين نسيمي

من مواليد أذربيجان في القرن الرّابع عشر في عام( 1369شاماخي – وتوفي في حلب عام 1417 )، وهو شاعر صوفي أذربيجاني، تمتلك المصادر المختلفة آراءً مختلفة حول مكان ميلاده واسمه الحقيقي. الكثير من الباحثين يؤكدون أنه ولد في مدينة شاماخي وان والد الشاعر سيد محمد كان شخصية معروفة في شرفان فيما يرى آخرون منهم أنه ولد في بورصة وتبريز وباكو وديار بكر وبغداد وحتى شيراز، ولكن الروايات التي اتفق عليها أغلب المؤرخين أنه وُلد في مدينة شاماخي في أذربيجان

وأمّا نسبته “نسيميّ” إلى ضاحية نسيم في بغداد فليس بناء على موطن ولادته بل بناء هو أحد أبرز شعراء الصوفية باللغة التركية ومؤسس الشعر التركي باللهجة الجنوبية الغربية (الآذربيجانية-التركمانية) في نهاية القرن الرابع عشر ومطلع القرن الخامس عشر

ويلقّب عماد الدين بالنسيمي الشيرواني، وذلك لأنه قضى مدة من حياته في مدينة شيروان الإيرانية. ليس بعيدًا عن العاصمة ، في مكان يُدعى ملحم ، كانت هناك أكاديمية دار العش الشفا الطبية ، التي أسسها ودارها عم الشاعر الشهير خاقاني والطبيب كفاء الدين.ظهر في مدينة الشاماخي مجموعة كاملة من الشعراء والعلماء ومن بينهم الفنان الكبير فضل الدين خاقاني. قضى نسيمي سنوات دراستة في هذه البيئة العلمية والادبية

يُظهر أعمال نسيمي انه استطاع الحصول على تعليم مثالي في الشاماخي من اجل الدراسة في أفضل الجامعات في ذلك الوقت

وعلى الرغم من كونه أحد أهم ممثلي المذهب الحروفي ، فهو يُعدّ اليوم في تركيا وأذربيجان وإيران والعراق شهيداً ووليّاً، ونتيجة لهذه المكانة أحيطت شخصيته وحياته بهالة من الأساطير والحكايات . يُستدل من ديوانه باللغة التركية على أنه رجل عميق الثقافة والمعرفة على صعيد التصوف وعلوم القرآن والحديث النبوي

تعمَّق عماد الدين نسيمي في دراسة الفلسفة و الأدب اليونانية الشرقية والقديمة والفلك والمنطق والرياضيات وتاريخ الأديان،وكان يجيد اللغة التركيّة والعربيّة والفارسيّة الى جانب لغة الام لهجة التركية الأذربيجانية، وقد كتب بهذه اللغات أشعاراً صوفيّة، واستطاع أن يبدع تحديداً في لغته الام الأذربيجانية التركية، وقد ترك اكثر من عشرة آلاف بيت شعري في مختلف الموضوعات.تتميز لغة قصائده الأذربيجانية بغناها وقربها من الخطاب الشعبي والأمثال والأمثال والأقوال والحكم

ويمكن القول بأنه قد ألمَّ بثقافة عصره وتاريخ من سبق ، ومن أهم أساتذته الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي والحسين بن منصور الحلاج وجلال الدين الرومي وأستاذه المباشر, فضل الله النعيمي الاسترابادي الفكر الصوفي عند النسيمي في نتاجه الأدبي, سواء أكان ذلك في الرباعيات أو المثنوي أو القصائد, وذلك باللغات الثلاث التي كتب بها

ومن المعلوم أن عظمة عماد الدين النسيمي تكمن في إنه المؤسس الأول للأدب الأذربيجاني بشكله الرفيع الإنساني البديع, والذي كتبه بالتركية الأذربيجانية قبل سبعة قرون.ومن الجليّ تماماً أن الرجل كان على اطلاع واسع على نتاج الفكر اوالتأثر بمفهوم وحدة الوجود. واندماج الحب اللاهوتي بالناسوتي وصولاً إلى الحب الإلهي والإنساني الذي مثلّه قبله الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي

أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

روباعيات نسيمي قريب جدًا من البيات ، وهي أمثلة على الشعر الشعبي الأذربيجاني. ويُستنتج من 5 آلاف بيت في ديوانه باللغة الفارسية إتقانه هذه اللغة إلى حد النَظم فيها ببراعة لافتة، وكذلك الأمر على صعيد قصائده القليلة باللغة العربية غير أن دواوينه بالعربيّة تعرّضت للضياع أو للإتلاف لاعتباراتٍ مختلفة، في أغلبها اعتبارات السياسيّة وأسباب مجهولة ولم يصل منه إلا أجزاء يسيرة، وقد يرجح السبب إلى أن أعداءه وأعداء المحتل من أصحاب الحمية العربية اعتبروا أن وجوده شكل من الغزو الأجنبي فأتلفوا شعره من ضمن ما أتلفوه من مخلفات الاحتلال

كتب نسيمي بثلاث لغات بصفته فيلسوفًا محترفًا ، لم يقدم أفكاره في نظام كامل في أطروحات منفصلة ، لأنه في ذلك الوقت ربما لم تكن هناك حاجة لكتابة أطروحات في هذا السياق بعد الأعمال الفلسفية الصوفية الواسعة لميانجي وابن عربي

ويُعدّ شعره من الناحية الفنية سابقاً لعصره لاستيعابه تقاليد الآداب الإسلامية وتراثها، واستخدامها في أشعاره الغزلية والصوفية على نحو إبداعي مجدِّد، ولاسيما تلك المكتوبة بالتركية الجنوبية الغربية التي افتقرت آنذاك إلى تراث أدبي فكري متميز

درس وتعمق نسيمي في بداية حياته الفلسفة الصوفيّة الممتدة من مدرسة الصوفي والشاعر العباسي العراقي الحسين بن منصور المشهور بـ”الحلّاج” أحد روّاد التصوف في العالم الإسلامي. في عهد السلطان العثماني «مراد الأول»، ظهر من يُدعى فضل الله بن محمد التبريزي المعروف بالحروفي، وقد دعا «التبريزي» تيمورلنك إلى هذا المذهب، فعزم تيمورلنك على قتله، ولهذا لجأ إلى ابنٍ لتيمور ليكون أمنًا له؛ غير أن هذا الحامي ضرب عنقه بيده، ولما عرف ذلك تيمور أمر برأسه وجسده فأحرقا عام 1401؛ ولكن مذهبه بقى بعده إلى منتصف القرن السابع عشر الميلادي. وتمذهب به عماد الدين نسيمي..تعمق نسيمي بالمذهب “الحروفي” على يد فضل الله نعيمي الاسترآبادي في مدينة باكو عاصمة جمهورية أذربيجان وأصبح واحداً من دعاتها، كما تزوّج أيضاً بابنة أستاذه الاسترآبادي

انتقل نسيمي من العراق إلى أذربيجان ومنطقة الأناضول لنشر المذهب الحروفي «وقد ترك الحروفيون في القرن الخامس عشر اللغة الفارسية وبدءوا باستعمال اللغة التركية، كما أثارت قصائده باللهجة التركمانية، وهي خليط من لهجة الأناضول واللهجة الاذربيجانية، أصداء واسعة في صفوف المتصوفة والأوساط الدينية، حيث دعا فيها نسيمي الإنسان إلى معرفة ذاته، على اعتبار أن أسرار الكون وأسرار الخليقة تتجلى فيه .هذه الدعوة التي تميزت بجرأتها ودعواتها الإصلاحية الاجتماعية والسياسية، فبدأ ببث أفكاره في الأناضول تحت غطاء دعوة صوفية أخرى هي البكتاشية التي كانت منتشرة في بلاد الأناضول لكنه عندما قويت شوكته وأحبه الناس صرح بثقافته، فثار عليه رجال الدين وعدوا دعوته خروجاً عن الإسلام فسجن ثم أخلي سبيله، فغادر الأناضول إلى حلب التي كانت وقتها أحد المراكز المهمة للحِرَف والتجارة وملتقى القوافل التجارية للهند وخاضعةً لحكم المماليك

اعتبر نسيمي ياقوتة حلب،حيث تردد اسمه في كل مناطق حلب وتأثر به الشباب المثقف وكان يدعو إلى أفكاره سراً، ويصرح بحبه للحلاج الذي كان ثمة إجماع على محبته في حلب، بدأ المماليك يرون فيه خطراً على استقرار سلطتهم لاتّساع تأثيره وخشيتهم من تحوّل ثوريّته الفكريّة إلى ثوريّة سياسيّة، خصوصاً أنّ نسيمي كانت له علاقات قوية مع الأمراء التركمان في الأناضول

مع تمكّن نسيمي من نسج علاقاتٍ وثيقة مع الأمراء التركمان في المناطق العليا المملوكية من شمال بلاد الشام و المتأرجح ولائها بين المماليك والدولة التيمورية من جهة و العثمانية من جهةٍ أخرى وكان في مقدمة حلفائه آل دلغدار التابعون اسمياً للمماليك، وكذلك الأمير التركماني عثمان قره يولك في منطقة ديار بكر

نتيجة علاقة نسيمي بالأمراء التركمان الذين كانت فكرة التمرد تحكم طبيعة علاقتهم مع المركز المملوكي في القاهرة عام 820 هجرية 1417م، قرر سلطان المماليك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي التخلُّص من عماد الدين نسيمي،بسبب اتهامه بالكفر والإلحاد والزندقة ودعوته إلى الحروفية، الداعي في أن هناك علماً خفياً لا يحيط به إلا كل ذي حظ عظيم في التجربة الروحية، وبه يفسّر كل موجود في الأرض والسماء ويشرح من خلاله الروابط التي تجمع بين الموجودات، وأصل هذا العلم في القرآن الكريم، غير أن مفاتيح خزائنه في يد الصوفية، ثم في يد خلفائهم ومريديهم، ممن أنضجتهم التجربة وورثوا العلم ومنحهم الله ذوقاً وعلماً من لدنه

نُظر الى دعوتة الى الحروفية كقضية سياسية، فمثل هذا الصوفي تنجذب إلى أفكاره العوام، ولا بد أن يكون عبرة لغيره، وذلك بأن يُعدم على الطريقة المالكية، فيُسلخ جسده في ساحةٍ عامّة بحلب ويشهر ويدعى الجمهور لمتابعتها سبعة أيام وينادى عليه وتقطع أعضاؤه على أن تكون النّهاية بقطع رأسه،ويُرسل قطعةٍ من أعضاء نسيمي إلى كل من: علي بك آل دلغدار وأخيه ناصر الدين، وعثمان قره يلوك، لأنه كان قد “أفسد عقولهم. فاجتمع العلماء وأعلنوا كفره، ولكنّ أغلب فقهاء مدينة حلب عارضوا إباحة دمه، ما عدا الشيخ شهاب الدّين أحمد بن هلال الحسبانيّ الشّافعيّ الصّوفيّ الذي أفتى بقتله، وقد قُتل شرّ قتلة وسُلخ حيّاً

كان السلطان يخشى بشكل أو بآخر، من فكرة إعدام نسيمي بلا تهمة حقيقية فهو شاعرٌ صوفي له أتباع في النهاية، فحاول المقربون منه أن يدبروا تهمةً “دينية”، للتستر على الهدف الحقيقي من قتله الذي كان سياسياً بحتاً، وقد اختلفت الروايات حول التهمة التي وجهت لنسيمي

الرواية الأولى تحدَّثت عن قيام سلطة المماليك بتدبير مكيدة، بتحريضٍ من الشيخ الشافعي، وقيامهم بتمزيق بعض أوراق المصحف ووضعها في حقائب النسيميّ ومن ثم الوشاية به، وعلى أثر ذلك تمّ اعتقاله ومحاكمته، وعندما وقف أمام القاضي سأله: ما الحكم في اليد التي تعبث بالقرآن؟ فأجاب: تقطع، فقال القاضي: ها أنت قد أفتيت لنفسك، فما كان منه إلّا أن أعلن أنّه يسلّم أمره لله

أما الرواية الثانية التي ذكرها الكاتب السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي في كتابه “ياقوتة حلب، عماد الدين النسيمي”، أن واحداً من تلاميذ نسيمي كان يتغنى بأشعار أستاذه في أسواق حلب المشهورة والتي تقول

(إنك تحتاج كي ترى وجهي إلى عين تستطيع أن ترى الله كيف تستطيع العين الكليلة أن ترى وجه الله) فألقي القبض عليه فنسب الشاب الشعر إلى نفسه ليمنع الخطر عن النسيمي، فحكم على الشاب بالإعدام، لكن نسيمي سارع ورد الشعر إلى نفسه وكانت نهايته مؤلمةً وهي السلخ حياً

ولموت نسيمي قصة تستحق الذكر حيث اقتيد في عام 1417، إلى مسلخه الذي احتشد حوله الآلاف من محبّيه وعشاقه واتباعه الذين تقاطروا من كل مكان. بدأ نسيمي وهو تحت التعذيب يردّد بعضاً من أشعاره، وعند بداية سلخ جلده، قال له القاضي الذي افتى بسلخ جلده باستهزاء: “إذا كنت الحقَّ كما تدّعي فلماذا بدأ وجهك بالشحوب؟”

فرد عليه نسيمي قائلاً: “الشمس تشحب دائماً عند المغيب؛ لتشرق من جديد”

وقيل إن مفتي حلب انذاك كان من ضمن الشهود على قتله، الذي أعلن وقتها أن النسيمي نجس ويموت ميتة نجسة وقال: “ولو وقعت نقطة من دمه على جارحة من جوارحي لقطعتها”

وفعلاً أصاب المفتي رشاش من دم النسيمي أثناء سلخ جلده وهو يُعذّب، وسقطت نقطة من دم النسيمي على إصبع المفتي، فتنبّه إلى ذلك أحد الحاضرين من محبي نسيمي، فنظر إلى المفتي وقال: لقد سقطت نقطة من دمه على إصبعك فاقطعها كما وعدت بذلك أيها المفتي بذلك أيها المفتي، فذعر المفتي وقال: كلا، إنما قلت ذلك حينما كنت أمثّل لكم وليس في التمثيل من حرج، وثار النسيمي لكذب المفتي وخساسته، عندها قال النّسيميّ وهو يعاني آلام السّلخ: “لا بدّ من قطع إصبع هذا الزاهد الذي زاغ عن الحقّ، وانظر إلى ذلك العاشق المسكين الذي يمزّق إهابه من قمّة رأس إلى أخمص قدمه، فما بكى ولا شكا”

وفي المنقول الكثير عن مقتله يُذكر أنه قال شعراً وهو تحت السلخ بلغ خمسمئة بيت

جاء وصف مشهد الإعدام في كتاب “حيونة الإنسان” للكاتب السوري ممدوح عدوان في عبارة: “كانت براعة الجلاد عالية تماماً بحيث إن نسيمي لم يمت أثناء تنفيذ عملية السلخ، ولذلك أُطلق “حياً” وهو يحمل جلده على كتفه،وظل يسير وينزف”

كتب ابن العماد حنبلي في كتابه،عن نسيمي

“هو شيخ مذهب الحروفي ، عاش في حلب ، تضاعف أتباعه ، وازدادت بدعته ، ووصل الأمر إلى حد أمر السلطان باغتياله ، وقطع رأسه ، وسلخ جلده ، وصلب جسده”

لفظ نسيمي آخر أنفاسه أمام أسوار قلعة حلب، بعد أن تم تعذيبه بطريقةٍ غير إنسانية، واعتقد قاتلوه بأن شعره دفن معه إلى الأبد، لكن ذلك لم يحدث بقي اشعاره في الوجدان تتردد عبر الاجيال

دفن في تكية قرب قلعة حلب وتعرف به في محلة الفرافرة تجاه الحمام المعروفة بحمام السلطان بالقرب من دار الحكومة ،الزاوية في الأصل كانت مسجداً وقد ضم العديد من قبور جماعة الصوفية الخواجكية ثم ضم رفات النسيمي. ثم جدده السلطان قانصوه الغوري في العام 1504 م ثم جدده الوالي مصطفى باشا في العهد العثماني في العام 1821م ودفن زوجته فيها.وقد لعبت أيضاً دوراً أجتماعيا في حلب وسميت تكية و عُرف كل من تولى مشيخةتها بالنسيمي فهي تستضيف الغرباء والفقراء وتقدم لهم الطعام

وبغض النظر عن طريقة مقتله، يبقى نسيمي شاعرا للحب ضحى بنفسه من أجل قيمه وأفكاره. لقد كان العامل الإنساني واضحًا وقويًا في الخطوط العامة للإبداعي النسيمي، لدرجة أنه لم تكن هناك حاجة إلى تقديم الأعذار التي تقف وراء إصدار حكم بقتله

إبداعاته

استخدم نسيمي ثراء اللغة في غزالاته بمهارة فريدة.أحيانًا يبني الشاعر قصائده فقط على العناوين والترديدات التعبيرية: ابنة أخي ، حبيبتي ، نصفي ، أختي ، موني ، عزيزتي ,صديقي ، رفيقي ، حياتي ، نعومي ، دوائي للألم …قلبي ، إخلاصي ، براءتي ، معاناتي ،ربي ، سيدي ، أمير ، سيدي

لذلك سرعان ما اكتسب شعر الشاعر الفيلسوف شعبية بين شعوب آسيا الوسطى وتركيا وإيران، أصبح اسمه رمزًا للإخلاص والشجاعة غير العاديين لإيمانه

إن حب الله، مصحوبًا بإبداعه، والإعجاب به، تثبت مرة أخرى عبوديته للباري، ولربما أن أفكاره لم يتم التحقق فيها وتم تجاهل مضمون كلماته على حساب ظاهرها

آمن النسيمي أن الله يعلن عن ذاته من خلال الإنسان، لذا كان ينصح مريديه أن ينحنوا للإنسان حتى لا يضلوا الطريق، الأرض والسماء عنده هما جوهر الحق، أنا الحق، ينطق بها الدف والناي! وإذا كان التصوف بحسب قول أبي سعيد ابن أبي الخير: أن تدع ما في فكرك، وأن تعطي ما في يدك، وأن تندفع بما يأتي عليك! فاندفع النسيمي يعبّر عن تجربته الروحية شعراً، فأخبر عن نفسه قائلاً

خليع أنا وفاجر، جعلت بيتي ركن الحانة

منذ مولدي عشقت، وأقررت بسكري

جميع الأشياء من الأرض إلى الثريا: آدم وحواء، حوريات الفردوس، الربيع والشجر، الملاحدة والمؤمنون، خرقة الدرويش وزنار المسيحي، القيثارة والمزهر، الناي والكمان، المتكلم والكلمة.. كلهم ثملون مثلي بنشوة الخلق

أنا الروح والمادة، أنا المكان والزمان، أنا الجسد والروح، أنا النجم والسماء، أنا الغابة المحترقة، أنا البحر، أنا الكنز الإلهي الدفين

اسمي آدم، وأنا الإنسان

الحب أسكرني في الوليمة الأزلية، وأنا الآن أرى العالم في نشوة سكرى

أنا ثمل في ملكوت الله، وسأبقى ثملاً فلا أصحو قبل يوم الحساب

منذ مولدي عشقت، وأقررت بسكري

حين فاض العقل الكوني

وبأمره “كن” اندفع العالم سكران بنشوة الخلق

البعد الإنساني الرفيع نجده في أقوال نسيمي يقول

أيَها الإنسان… يجب أن تدرك أن نعمة الله هي الإنسان وأن سيادة الكون من حق الإنسان وأن الذروة العليا للخلق هي الإنسان

وهكذا قاده هذا الفكر الإنساني العميق إلى الحبَ بدلالاته الإلهية والبشرية والعرفانية. ورأى الجمال في كل شيء أوجدته الذات الإلهية

” أمام شمعة وجهك, ليست الشمس إلا فراشة ليل, وجهك لؤلؤة, وشفتاك ياقوتتان مترعتان بالشهد, المسجد والحانة.. كلَ منهما عاشق لك, متيم بك”

وفي شعر آخر يقول

حبَ الجمال يملأ قلبي ويطغى عليه

أو قوله

أعطني اليوم الحب, وخذ لنفسك كلَ الغد, إن ساعة من الزمن أقضيها مع حبيبتي لا يمكنني استبدالها بحقبة زمن طويلة

ويذوب في عشقه حين يقول

بأهدابك الساحرة تطعنين قلب العاشق, أية سهام قاتلة تنطلق من أهدابك, إنني أبيع العالم كله من أجل ترنيمة أهدابك

وهذا العشق للجمال مرادف للإيمان العميق بالذات الإلهية

عندما تأملت وجهك الجميل, قلت: سبَحوا الله, وعندما أبصرت قامتك, قلت: لا إله إلا الله, وفي ضفائر شعرك التي تنثر العطر وتحيط بحاجبيك رأيت قنطرة من الجمال فقلت: حفظك الله. عيناك سارقتان.. ومع ذلك حفظهما الله

الإنسان عند نسيمي إذن هو المرآة التي يتجلّى فيها الجمال الإلهي، وفي عقيدته أن من لا يعبد المحبوب فهو شيطان، لأن إبليس أبى السجود لآدم، ويتخذ نسيمي حجّته على ذلك من قوله تعالى: “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ”، فالآية بالنسبة له دليل على أن الإنسان يستحق العبادة. كما يستشهد على فكرته بقوله تعالى: “وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ”، إذ يرى في هذه الآية دليلاً على سرمدية الوجه الإنساني

وفي احتفالات نسيمي عام 2019، غنّى المنشد والملحّن البريطانيّ ذي الأصل الأذربيجاني سامي يوسف، من إحدى قصائده، يقول نسيمي

أستطيع أن أعيش في عالمين ،لا أستطيع أن أتلاءم مع هذا العالم،

أنا جوهرة ، لا أستطيع أن أتلاءم مع المساحة القديمة

كل الموجودات أنا، وكل المرايا لا تحتويني

قد أكون اليوم نسيمياً، وقد أكون هاشميّاً، وقد أكون قُرشياً

أنا الذي تتجلّى آياتي فيَّ، وكل آياتي لا تسعني

الكون والمكان هي آيتي

وذاتُكَ هي بدايتي

وأنت بهذه العلامة اعرفني، ولكن اعلم أنّ كلّ العلامات لا تسعني

أنا سرّ الكنوز، أنا المحيط، وكلّ الموجود أنا

وإنّ كلّ الكون الأعظم هو ذاتي واسمي

وكلّ هذا الكون لا يسعني”

وقد نالت هذه الأغنية ملايين المشاهدات ولاقت رواجاً واسعاً بسبب جمال لحنها وأدائها، وهي قصيدة قالها بلسان الذّات الإلهيّة

ومن رباعيات النسيمي التي يذكر فيها الأركان التي يقوم عليها المذهب الحروفي

يا من جمالك قل هو الله أحد

ونقش صورتك الله الصمد

غدائرك لها طرف في الأزل وآخر في الأبد

وشيطان كل من لم يسجد لحسنك مع الساجدين

الصوفيون يستندون إلى الحروف المنفصلة في السور القرآنية للاعتداد بأهميتها وأهمية تفاسيرهم، وهذا بحث متشعب عند النسيمي وسواه ممن أخذ عنهم وأخذوا عنه، فهو الرجل الذي أعطى فكان في رباعياته ومثنياته وأبياته شاعراً ساعياً إلى بناء الإنسان الكامل وشحن طاقته فهو الذي كتب

أيها الواعظ لا تحاول أن ترعبني بالغد

لأن الحكيم الذي يرى الغد في الحاضر لا يخافك

أيها القلب انبذ الوعود الجوفاء

ولنقضِ هذه الساعة في الملذات

أعطني حباً هذا اليوم، وخذ الغد لنفسك

ساعةٌ أقضيها مع حبيبي لن أبادلها بحقبةٍ كاملة

ومن مختارات من أشعار النسيمي

اعلم أيها الإنسان أن نعمة الله هي الإنسان

وأن سيد الكون هو الإنسان

وأن ذروة الخلق كله هي الإنسان

وأن مالك الأرض والسموات هو الإنسان.

*

أنا الجسد والروح

ولكن الجسد والروح لا يسعاني.

*

لا إله إلا نحن

نحن نعرف ذلك دون ريب

عندما نرفع القناع عن وجهنا

*

اعطني حبًّا وخذْ الغد لنفسك.

فإن ساعة أقضيها مع حبيبي

لن أبادلها بكل الدهر

*

لقد غصتُ في بحر لا أستطيع عبوره

لقد وقعتُ على كنز خالد لا يدركه الفناء.

لقد دخلت مدينة قناطرها لا يقدر عليها الدمار

لقد وجدتُ قمرًا لا عيب فيه

*

أنا الصدفة واللؤلؤة معًا

أنا الطريق إلى الجنة

ساحة الدنيا لا تسعني

أنا الكنز الإلهي الدفين

أنا العين التي تبصر

*

كوني حبيبتي

فروحي لا تصبوا إلى غيرك

أنت حبيبة روحي

وروحي لا تصبو إلى غيرك

إن حديقة ورد وجهك هي جنة النعيم في الفردوس

بغض النظر عن مقدار التعميم والتجرد والإخفاء الكوني لشخص ما ، لم ينس نسيمي وضعه الأخلاقي الحقيقي في الحياة ومكانته في المجتمع ووفقا له ، هناك ثلاثة أمور لايستطيع ان يتحملها في حياته

أولاً ، جار سيء ، صديق سيء ، زوجة سيئة

ثانيًا: الكذب ، القيل والقال ، الغيرة ، العداوة

ثالثًا ، القذف ، السخرية ، النكتة الوقحة

في هذا الصدد ، كتب زمرد غولوزاده: “في قلب عمل نسيمي إله جميل ، يحبه البطل الغنائي ، الذي يربيه ، ويكمله ويغمره في نوره

أسمى شعور للإنسان هو الوصول إلى ذلك المحبوب ، والالتقاء به ، والذوبان والاختفاء فيه .لأن هذه الطريقة فقط يمكن أن تقود الإنسان إلى الله ، وإلى حقيقة وجوده

إرث نسيمي الأدبي الرائع، وأفكاره المتقدمة والإنسانية، وشخصيته الشامخة، وشجاعته ونضاله من أجل مهمته، واستشهاده من أجل قناعاته الخاصة به خلد اسمه كشاعر عظيم في ثقافة جميع شعوب الشرق الأوسط والادنى، واكتسب الشاعر شهرة عالمية فهو صوفي بامتياز، وشهيد حقيقة

قصائد نسيمي عميقة المعنى والفنيات باللغات التركية والفارسية والعربية، وألف الاعمال الادبية المميزة فنيا، ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات ، ويقلدها الشعراء الذين يكتبون بهذه اللغات وبالتالي اكتسب احتراماً كبيراً كشاعر عبقري في الشرق الأدنى

ومع ذلك فإن أعظم إنجازات الشاعر كانت بالتأكيد فتح آفاق القدرة التعبيرية للغة الأم ورفع شعارها إلى أعلى قمة

كتب نسيمي البغدادي اشعاره تحت تأثير الشعر التركي واستعملت نفس الصيغ والتراكيب والشكل والمضمون حتى الوزن وقد طبع ديوانه ثلاثة أجزاء من القطع الكبير في باكو عاصمة أذربيجان باللغة التركية وبحروف عربية ولو أمعنا النظر للديوان الثلاث نرى أنه جعل جميع شعره وقفا لمذهبه وهو إرشاد إلى تعاليم الصوفية وتغزل بذات الله والإنسان عنده هو المرأة التي تجلى فيها الجمال الإلهي ويرى أن الله حل في الجميلات فعبادتهن فرض على العباد

وهو يقول في إحدى غزلياته باللغة العربية وهو من بحر الكامل

حاشاك تنساني وتنكر صحبتي وهواك في ديني ووجهك قبلتي

أنت العليم بأن حبك قاتلي ما حاجة أشكو إليك قضيتي

هذا ومالي زلة أعلم بها إلا هواك ولم أثب عن زلتي

أسقيتني من كاس حبك شربة يفنى الزمان ولم أفق من سكرتي

فوحق ما بيني وبينك في الهوى من صدق أيمان وحفظ مودتي

أني مقيم على العهود ولم احل أبدا وهذا شاهدي في مقلتي

وشعر نسيمي البغدادي خاص لمعانيه الغربية ورموزه الخفية ولا يفتح سره ويحل عقده وطلسمه إلا ممن له حظ عظيم في العلم لأنه يورد دائما تعابير صوفية مغلقة بعيدة عن فهم العوام ويقول بأن الوصول إلى المعشوق هو الفناء لأجله والمعشوق هنا هو ذات الله وهذا آخر درجة ينالها الصوفي وأن في حياتهم الخاصة درجة وهي السكر لأجل الذات معناه السكر الإلهي وبهذا يخلد الإنسان في كنه مذهبة ويقول في قصيدة طويلة باللغة العربية في بحر الهزج التركي “مفعول مفاعلن فعولن”

أني لقد اتصلت بالذات يا منقطع الوصال هيهات

لما قرن الصعود نجمي أبدا قمري بالاتصالات

في الكأس تلألأ الحميا يكفي لك هذه العلامات

في حبك كل عاشق هالك ما صار شهيدا أنه مات

يا من أنا أنت أنت عيني من بعد تساقط الإضافات

من ظل فإنما عليها هذا لك كافيا وإثبات

يقول في قصيدة أخرى

لقد فنيت عن غير لا وجود سواي لأن تفي وجودي ثبوته لبقائي

عن البقاء ولا للبقاء من عدم فكـيـف اثبت شيئا لبقائي

أهدت الحكومة الآزربيجانية تمثالاً لعماد الدين نسيمي إلى حلب سنة 1989 المدينة التي سلخ أمام قلعتها المشهورة، ووضع تلك التمثال في الجناح الإسلامي بمتحف حلب الوطني، وذلك في احتفالٍ رسمي، واليوم يجب ضرورةٌ في البحث والتقصي عن هذه الشخصية التاريخية وهذا الشاعر ، الذي كان عصارة تلاقي ثلاث حضارات في هذا الشرق النابض بالأعاجيب

المصادر

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء مؤلف محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

ياقوتة حلب عماد الدين النسيمي. الكاتب عبد الفتاح قلعجي 1991

ياقوته حلب عماد الدين النسيمي. المؤلف سمير شيخ الأرض،2007

الموسوعة الاسلامية الميسرة، التي ترجمها د. راشد البراري، القاهرة 1985

الدستور، سيد عماد الدين نسيمي : شاعر الحقيقة الذي لم يسع كونه المكان، نشر بتاريخ 26 أيلول\سبتمبر 2019

النَسيمي (علي عماد الدين ) نبيل الحفار الموسوعة العربية

نسيمي ديوان شعر (تحقيق حميد محمد زادة ) أذربيجان 1973

الزركلي خير الدين الأعلام بيروت 1991

الأسدي خير الدين موسوعة حلب المقارنة جامعة حلب 1988

الغزَي كامل نهر الذهب في تاريخ حلب-حلب 1992

http://suriyeturkmenleri.com/19-yazar&newsID=333~